الدكتور نسر حدادخاص ليبابيدياكتّاب الموقعكتاب وآراء

د. نسر حداد: “علة لبنان !…”

 

لن نتناول في هذه المقالة حالة الشعب اللبناني ومعاناته الأليمة جراء ما يعانيه على كافة الصعد الإقتصادية والإجتماعية والسياسية وهو ما أصبح معروفًا للقاصي والداني ولكننا سنحاول الإضاءة على بعض أسباب هذا الويل الذي جلبه لنفسه مما يمكن وصفه بالمأساة الكبرى التي نادرًا ما عرف شعب آخر مثيلًا لها في تاريخه! ولا يمكن الحديث عن هذه المأساة العظمى من دون لمحة تاريخية عن نشوء دولة لبنان والأحداث السياسية التي رافقت هذه الولادة وما هي الأسس التي قام عليها هذا الكيان وصولًا الى تحديد الأسباب العميقة لهذه المأساة الفظيعة !…
ليس خافيًا على أحد أن دولة لبنان كانت مشروعًا فرنسيًا بحتًا أرادت من خلاله فرنسا في عهد إحتلالها (يسمونه زورًا إنتدابًا !) منح الموارنة بشكل خاص (وهم جماعة دينية من أتباع القديس مارون جاءت من الداخل السوري بسبب الحروب والإضطهاد الديني وفقدان الحقوق المدنية والسياسية العامة) كيانًا يأمنون فيه على معتقداتهم وتراثهم إضافة الى إمتيازات سياسية وإدارية دون باقي الطوائف اللبنانية من منطلق أنهم الأقرب اليها ثقافيًا ودينيًا (كانت تطلق عليهم إسم فرنسيو الشرق !) وإنطلاقًا من مبدأ إستعماري قديم وأصيل يقوم على إضعاف الأمم بتأليب مكوناتها بعضها على بعض وإبقاء جذوة التوترات ملتهبة فيما بينها خاصة أنه قد وضع مشروع إقامة دولة يهودية على أرض فلسطين على نار حامية وأصبح على وشك إعلانه رسميًا مع ما يستدعي ذلك من تهيئة المحيط لولادة هذا الكيان المصطنع !
من هذه النقطة بالذات إبتدأت أولى شرارات المأساة التي نحن فيها اليوم إضافة الى أن الإمتيازات التي منحها المستعمر الفرنسي لفئة من الشعب تحولت إلى جمر تحت هشيم النسيج الطوائفي القابل للإشتعال متى تهيأت الظروف لذلك ، وأساسًا كان لاستحواذ طائفة لكافة الصلاحيات والمناصب الأساسية الوازنة دون باقي الفئات وإمعانها بالتفرد الى حد الاستبداد زاد وعمق الجراح في جسد هذا المولود الجديد بحيث كانت تلك الجراح تلتهب بين فينة وأخرى فيصعب مداواتها من دون ترك ندوب عميقة وأليمة !
ولم تكن السلطة الحاكمة مهتمة بالأساس بإيجاد قضية موحدة للشعب بكافة طوائفه أساسها المساواة لا بل كان هنالك تهميش للأصوات المنادية بالعدالة الأمر الذي ولد شعورًا عميقًا بالظلم وهذا كله بسبب العقلية الفوقية التي حكم بها المسؤولون البلاد إضافة الى تبعيتهم العمياء للخارج والأسوأ والأشد خطورة هو تنفيذ إملاءات هذا الخارج (الإقليمي والدولي) ومصالحه على حساب مصلحة الدولة العليا التي تقضي بتمتين الوحدة الوطنية وتحصين الإستقلال !
هذه السياسة الخرقاء اللاوطنية دفعت بزعماء الطوائف الأخرى إما لعقد صفقات مع السلطة الحاكمة إستفادوا بموجبها من فتات المنافع السياسية مع شعور مبطن ودائم بالغبن أو في أسوأ الأحوال سعوا الى طلب الحماية من دول خارجية عربية أو أجنبية تكون لهم سندًا بوجه إستبداد سلطة الداخل المهمشة لحقوقهم والتاركة إياهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم فتعمق الشرخ وضاعت الروح الوطنية الجامعة وأصبح الكل شاهرًا سلاحه بوجه الكل !…
ويجب ألا نغفل الدور اللاوطني الخطير الذي مارسته بعض المرجعيات الدينية في هذا الوطن المولود حديثًا والتي كانت على علاقة سرية متينة بالوكالة اليهودية ( راجع “المتاهة اللبنانية” للمؤرخ رؤوفين أرليخ) ومؤيدة بقوة لإقامة وطن مستقل لليهود في فلسطين مقابل كيان مسيحي مستقل في لبنان وقد غذت هذه المرجعية الدينية بقوة النعرات الطائفية لا بل تصدت بشراسة غير مسبوقة لكافة الأفكار العظيمة التي أطلقها رواد النهضة في بلادنا من مثل المعلم بطرس البستاني وفرح أنطون وشبلي الشميل وجبران خليل جبران وأمين الريحاني وأنطون سعادة الذين نادوا بفصل الدين عن الدولة وبالمساواة بين أبناء الشعب وبتحرير المرأة والكثير الكثير من المبادئ التي لو طبقت لما وصلنا الى هذه المأساة المجلجلة !
التراكمات التاريخية من سياسية ودينية التي جئنا على ذكرها والعامل الأخطر المستجد في سياق الأحداث ألا وهو نكبة فلسطين وما أدت اليه من نزوح للشعب الفلسطيني الى دول الجوار ومنها لبنان وبدء سياسة المحاور والتسليح المخطط له لإشعال حرب أهلية بهدف القضاء على الوجود الفلسطيني وتقسيم لبنان الى كانتونات طائفية متطاحنة وإضعاف الدولة المركزية لصالح المليشيات جميعها عناصر شكلت فصول الويل الذي جلبه بعض الداخل والخارج على لبنان ، وما المأساة التي نعيشها إلا نتيجة حتمية لإمعان البعض بالتمسك بعقلية رجعية جامدة ونظرة دونية تجاه باقي مكونات المجتمع وبإستمرار الخضوع لإملاءات الخارج وترك أفاعي الطوائف قديما” وحاضرًا ببث سمومها في جسد الوطن مع عدم تصدي العقلاء أو على الأقل فشلهم في وضع حد لكل من يفرق بين أبناء الشعب ، ولذلك فإن هذه المعاناة ستستمر الى يوم القيامة طالما لا يوجد رغبة عميقة وصادقة في معالجة أسبابها وطالما لم نع بعد حقيقة كوننا شعب واحد ذو مصالح واحدة أو مازال لم “يرغب” البعض أساساؤ بأن نكون شعبًا واحدًا لديه تاريخ ومصير واحد ولسنا قبائلًا وشعوبًا متخاصمة ومتناحرة !…
لا يمكن للبنان أن ينهض من كبوته إلا بالإتفاق أولًا على مفهوم موحد للوطن وثانيًا بالتصميم على بناء دولة بمقاييس عصرية قائمة على المساواة التامة دون أي نقصان لترسيخ العدالة وعلى إستقلالية القضاء وعلى مبدأ فصل الدين عن الدولة بجعل المواطنين محكومين بقانون مدني عام موحد في الأحوال الشخصية فلا تبقى الطائفة هي مرجعية المواطن ، هذا المبدأ الهام جدًا والذي أخذ مشرعو لبنان عن “الأم الحنون” الكثير من القوانين ما عداه لأن المرجعيات الدينية تفقد وظيفتها حين نصبح شعبًا متساويًا وموحدًا !
من وجهة نظرنا فإن عودة نعيق غربان البين ينذر بالشؤم ولا يبني وطنًا وأن الخطاب الإستفزازي الفتنوي واللاوطني الذي يطل برأسه بين الحين والآخر لا يوحي بأننا تعلمنا من دروس الماضي وعبره ولا يدل إطلاقًا على نوايا صافية أو على قرب بداية الخلاص للبنان من علله المزمنة ولذلك فهو في حالة للأسف أقرب الى الإحتضار ولفظ أنفاسه الأخيرة !..

ان كافة المقالات الواردة ضمن موقعنا ليبابيديا نيوز تعبر عن وجهة نظر واراء كتابها ومصادرها . وموقعنا غير مسؤول عن النص ومضامينه .

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »