كتاب وآراء

كلام المفتي الجعفري ومأزق التعايش بخلطته ” الهجينة”

المصدر: “lebtalks – جورج ابو صعب”

بكل محبة واحترام لسماحة المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، إلا أنه ليس مرشد الجمهورية اللبنانية كي يصدر أحكاماً وفتاوى ملزِمة للبنانيين، ولا مواقف وإعلانات تلزم الشعب اللبناني والدولة اللبنانية، فله إصدار المواقف التي يراها مناسبة للتعبير عن وجهة نظره ووجهة نظر ورأي مرجعيته الدينية وطائفته، لكنه ليس مخوّلاً إصدار أحكام مانعة أو ناهية على اللبنانيين.

الدولة اللبنانية والترسيم الحدودي مع ” الشرّ المطلق”

إسرائيل عدوٌ مطلق وشر مطلق، صحيح ولا خلاف حول ذلك، وهي دولة غاصبة محتلّة لأرضٍ عربية بمسلميها ومسيحييها ولا يجب التعامل ولا التواصل ولا التطبيع معها، لكن هل من حاجة لتذكير سماحة المفتي أن الدولة اللبنانية، وبمباركة الثنائي الشيعي وحزب الله في الطليعة، رسمت الحدود البحرية مع ” دولة إسرائيل ” أي مع هذا الشر المطلق الذي يتكلم عنه، ووفق اتفاقية دولية خاضعة للقانون الدولي سُجّلت لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة كوثيقة رسمية ملزِمة للأطراف الموقِّعة عليها، تلك الاتفاقية التي شكّلت اعترافاً قانونياً وسياسياً واضحاً بالشرّ المطلق وسيادته على المياه الإقليمية الحدودية .

الشيعة أول المطبّعين مع إسرائيل

هل نسي سماحة المفتي أن أول من طبّع مع الاحتلال والشرّ المطلق في لبنان، ولا سيما في جنوبه في الثمانينيات والتسعينيات كانوا أبناء الطائفة الشيعية الكريمة، وصولاً الى استقبال الجيش الإسرائيلي الذي اجتاح لبنان عام 2002 بنثر الأرز والورود؟! فيما يستعدّ لبنان، وأيضاً بمباركة حزب الله والثنائي الشيعي، للترسيم البرّي مع هذا الشرّ المطلق، لذا نرجو من سماحة المفتي قبلان أن يتروّى ويتبصّر قليلاً في واقع الأمور وحقائقها قبل إطلاق مواقف لا تنسجم مع عراقة ووطنية مرجعية الإفتاء الشيعي الجعفري التاريخية المحترمة، فضلاً عن أنها تساهم من حيث يدري سماحته أو لا يدري في تعرية حزب الله والثنائي الشيعي أكثر فأكثر من أية مصداقية متبقّية له إزاء اللبنانيين حول اعتبار أنفسهم مقاومة لإسرائيل ومقاطعين لها.
لبنان يدفع وحده أثمان المواجهة الأُحادية مع إسرائيل

ثم اذا كان المطلوب ضرب أرضية الشر المطلق وهياكله للخلاص منه، فلبنان دفع بما فيه الكفاية من لحمه ودمه وبشره واقتصاده ودولته وبناه التحتية أثمان المواجهة الأُحادية مع إسرائيل الشر المطلق، بحيث لم يعد لبنان مستعداً لخوض أي مغامرة أخرى مدمِّرة منفرداً، ما لم تندرج في سياق خطة عربية مشتركة واستراتيجية مواجهة عربية جماعية شاملة ضد إسرائيل، لا أن يتحمّل لبنان وحده عن أشقائه العرب الذين باتوا في مكان أخر مما نحن فيه حيال أزمات المنطقة .
مبدأ التعامل مع حكم الضرورة

أما بخصوص التواصل مع الشر المطلق، كما يقول سماحته، فما من أحد منذ عقدين تواصل معه أكثر من الثنائي الشيعي نفسه، تارة بالواسطة وتبادل الرسائل غير المباشرة وطوراً بالقنوات السياسية والديبلوماسية والأمنية، من هنا يمكن الجزم أن زيارة الأماكن المقدسة خلال فترة الأعياد ليست تطبيعاً و لا تواصلاً مع العدو، فالأراضي المقدسة ليست ملكاً لإسرائيل الشر المطلق والأعياد كذلك، بل هي ملك البشرية جمعاء المؤمنة بإحدى الديانات التوحيدية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام كما أن القيّمين على تلك الأماكن المقدسة ليسوا لا عملاء ولا جواسيس بل سلطات روحية منتدَبة للاشراف على إدارة الأماكن المقدسة من قِبل أعلى المراجع الكنسية، وصولاً الى الفاتيكان وقداسة الحبر الأعظم نفسه، وبالتالي نرفض لغة التخوين والتشكيك بالسلطات الروحية الكنسية التي تقيم في الأراضي المقدسة ليس بضيافة الصهاينة ولا بضيافة الشر المطلق، والقول عكس ذلك كما يفعله سماحة المفتي قبلان يشكّل في مكان ما تماهياً مع رغبة العدو الشر المطلق في عزل الأماكن المقدسة عن المؤمنين في العالم وبخاصة المنطقة العربية، ومنعه من زيارة تلك الأماكن والحج فيها لممارسة الشعائر الدينية والطقوس الروحية …
وبالتالي من الخطأ المميت اعتبار السلطات الروحية الكنسية، ولا سيما المارونية في الأماكن المقدّسة خاضعة للشر المطلق أو متعاونة أو متواصلة معه من أجل التواصل والتعاون، بل فقط وكما يفعل الفلسطينيون فإن تلك السلطات الروحية تحذو حذو كل فلسطيني تحت الاحتلال عندما يذهب الى الصلاة والحج في المسجد الأقصى والمقدّسات الإسلامية تحت نظر ومراقبة وإشراف الاحتلال الممسك بالأمن والسيادة على تلك الأماكن … فلماذا يكون للفلسطيني المسلم الحق بالصلاة والتعامل مع الاحتلال ” بحكم الضرورة ” من أجل ممارسة شعائره الدينية ولا يكون لعير المسلم الحق بنفس التعامل مع الاحتلال بحكم نفس الظروف التي تقتضيها ” تلك الضرورة “؟!
الحج الى الأماكن المقدّسة فرضٌ إيماني

خلط الأمور والانفعالات السياسية بالأمور الراعوية والدينية والروحية خطأ فادح يرتكبه سماحة المفتي قبلان في مواقفه، بحيث نرى وجوب توضيح هذه الأمور مرة واحدة وأخيرة ولا كل المرات في ما بيننا كلبنانيين خصوصاً، لاسيما وأن للكنيسة المارونية في الأراضي المقدسة أملاك وأوقاف ورعايا بحاجة لوجود تلك السلطة الكنسية ولو تحت الاحتلال أسوة بكل الفلسطينيين المحتلين، فالسلطات الروحية المسيحية هي أيضاً ” مغلوب على أمرها ” تماماً كما كامل الشعب الفلسطيني تحت احتلال الشر المطلق،
والحج الى الأراضي المقدّسة فرض إيماني ووجود أملاك وأوقاف مارونية في الأراضي المقدسة حق مشروع وشرعي للكنيسة التي تنتدب رعاة لمصالحها من بين المطارنة كما المطرانين موسى الحاج وكميل سمعان، فبأي حق يُفرض عليهما ما تراه جهة لبنانية محدّدة دون سائر اللبنانيين؟! وبأي حق يُسمح أو لا يُسمح لهما بالذهاب الى عملهما الراعوي في الأماكن المقدسة؟ وبأي حق يُدّعى عليهما من قبل ما يُسمّى ” هيئة ممثلي الأسرى والمحرّرين ” والتي ليست سوى إحدى الهيئات الشكلية التي تمثّل حزب الله في الداخل اللبناني، والتي يبدو أن عملها صُمّم لإشعال فتنة كبرى داخلية اذا ما استمرت هذه التصرفات الرعناء والجوفاء في استفزاز المسيحيين وسائر الطوائف اللبنانية، فالحزب قرّر ربما آشعال صراع طائفي داخلي لإلهاء الرأي العام عن الإخفاقات الشاملة لمحور المقاومة في المنطقة بضرب إسرائيل وإنهاء وجودها كما لطالما سمعنا من أفواه هذا المحور المسخ .
القانون منعَ التطبيع لا العمل الراعوي

اذا كان القانون اللبناني ينصّ على تجريم التطبيع والتواصل مع إسرائيل، فكان بالحري أن يُطبّق ذلك على طاولات التفاوض في الناقورة بين الجانب اللبناني والجانب الدولي والجانب الإسرائيلي عند كل تواصل وتفاوض كما بالنسبة للترسيم …
وكان بالحري أيضاً أن لا يوقّع الجانب اللبناني اتفاقية ترسيم حدود الى جانب توقيع إسرائيل،
لكن القانون اللبناني لم يُشر الى السلطات الروحية المولَجة حماية وصيانة وحراسة الأماكن المسيحية أو الإسلامية في الأراضي المقدسة … والقانون منعَ التطبيع لا التواصل بحكم الضرورة، والأمر الواقع الاحتلالي للأماكن المقدّسة من أجل تسيير شؤون تلك الأماكن،  لا من أجل التجسّس أو التعامل لمجرد التعامل وبملىء إرادة المعنيين …
كلام المفتي مردود شكلاً ومضموناً

من هنا، نرفض ما ورد على لسان سماحة الشيخ قبلان من كلام عن ماركة رموز الصهاينة قداس إجرامهم رفضاً كاملاً وشديداً لأن القداديس هي مسيحية لا يهودية، وهي تنطلق من ليتورجية الإيمان المسيحي لا اليهودي في أماكن عبادة مسيحية مقدّسة، لا في منزل بنيامين نتانياهو أو بيني غانتس … فالمسيحيون لا يتشاركون لا مع اليهود ولا مع الصهاينة أي مقام أو طقس روحي مشترك، والبركات التي ينالها المسيحيون ليست بركات يهودية بل بركات مسيحية من رجال دين مسيحيين وفقاً للطقوس المسيحية وشعائر الصلاة والعبادة … وبالتالي لا معنى أبداً لكلام سماحة المفتي في هذا الإطار المردود شكلاً ومضموناً …
غرابة التوفيق بين التجنّي والشراكة الوطنية

يبقى أن نسأل سماحته كيف يمكنه التوفيق بين كل هذا الافتراء والتجنّي والتحوير والتحريف في كلامه وبين قوله أن لبنان سيبقى بلد الشراكة الوطنية ؟ كيف تكون الشراكة الوطنية اذا كان فريق يريد فرض رأيه على سائر الافرقاء ؟ كيف تكون الشراكة إن لم يراعِ كل فريق خصوصيات الفريق الآخر في هذه الشراكة؟
أين الشراكة مع مقاومة تصادر رأي اللبنانيين وقرارهم السيادي وتقودهم رغماً عنهم الى اصطفافات محاور إقليمية مدمِّرة للبنان ولمصالح اللبنانيين المنهارين أصلاً والمختطفين من فائض القوة لدى هذا الفريق الخاطف للبنانيين الى حد محاولة فرض رؤيته ونظرته ونهجه في السياسة على سائر اللبنانيين ولو بالقوة …؟
فليتفضل سماحته ويشرح لنا هذه الخلطة الغريبة العجيبة بين مفهومي الشراكة ومفهوم فرض أُحادية الرأي .

 

ان كافة المقالات الواردة ضمن موقعنا ليبابيديا نيوز تعبر عن وجهة نظر واراء كتابها ومصادرها . وموقعنا غير مسؤول عن النص ومضامينه .

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »