الدكتور نسر حدادخاص ليبابيدياكتّاب الموقعكتاب وآراء

د. نسر حداد: المسيحيون ولبنان !

 

يتملك كل ذي بصيرة وهو يتأمل حال المسيحيين تحديدًا في لبنان العجب والإستغراب حد الصدمة إزاء هذا البون الشاسع الذي يقاس بالسنين الضوئية بين ركاكة لغة وخطاب ورؤية ما يسمون بالقادة المسيحيين اليوم وبين لغة النوابغ والمعلمين الكبار من المسيحيين اللبنانيين الذين لمع نجمهم في العالم وأصبحوا منارات خالدة للفكر والحكمة من أمثال جبران خليل جبران وغيره كثيرين من الذين لم يفاخروا قط بهويتهم المذهبية ولم ينظروا الى ذواتهم من زاوية دينية
وإنما من زاوية أنهم أصحاب رسالة فكرية حضارية وإنسانية و كانوا شديدي الإعتزاز بهويتهم الوطنية والقومية ، هذا التناقض حد الإفتراق في الخطاب يبعث في المرء شعور من الحزن ممزوج بالأسف العميق نتيجة هشاشة اللغة الوطنية وفقر مفردات التعبير والتسطح بالوعي ، وإزاء التبجح الدائم بالتميز والتفرد الى آخر المعزوفة كأن التميز هو بأسلوب العيش الذي يحاكي الأسلوب الأوروبي أو الغربي عمومًا !…
إن المأساة الكبرى التي يعاني منها المسيحيون في لبنان على وجه الخصوص هي في ضحالة وندرة القادة الكبار المتخمون علمًا وثقافةً وعمقًا في التفكير والمجبولون وطنية وإستقامة ونزاهة والمشعون بطولة والفاهمون السيادة إستقلالًا بالرأي الوطني عن الإملاءات الأجنبية والمتمتعون بالرؤية العميقة حول خير وعز وطنهم بكل أطيافه !…
ولا يختلف إثنان بأن الوجود المسيحي قد لعب دورًا حضاريًا رائدًا في لبنان وفي هذا المشرق إذ كان منهم كوكبة من الأدباء والشعراء والفلاسفة وعلماء اللغة والفنانين الكبار الذين أغنوا الحياة الفكرية والثقافية والفنية بنتاجهم العبقري الخالد ولكن المتأمل بهدوء حال ومستوى “القادة” في الوسط المسيحي بشكل خاص ينتابه إستهجان عميق وقلق فعلي على ما تبقى من وجود مسيحي في لبنان نتيجة التسطح الفكري عند بعض “القادة” وعقم الخطاب وفداحة الخيارات وطنيًا الأمر الذي لا يعكس بشكل من الأشكال عمق وثراء الموروث الفكري الوطني والقومي عند أسلافهم الذي جئنا على ذكره وهنا يكمن مقتل “الوجود المسيحي” وهلاك ما تبقى من مسيحيي هذا المشرق المضطرب والحزين !…
ولما كان المسيحيون طلائعًا وروادًا في النهضة العربية وحاملي مشعلها
عن جدارة وتفوق وكان ينظر إخوانهم المسلمون إليهم بكثير من الإحترام والوقار المقرونين بالمحبة والتقدير وجب عليهم أن يستمروا برسالتهم الحضارية هذه وذلك بإختيار قادتهم ممن تنطبق عليهم مواصفات الرجال الكبار فكرًا وثقافة وحرية ضمير والأهم فهمًا للدور الريادي الحضاري الذي يشكلون إستمرارًا له مع ما يستوجب ذلك من تحلي بالمسؤولية الوطنية التاريخية والوعي الرصين إزاء مطلق خطاب أو قرار كي لا تكون نتائجه وخيمة على المسيحيين تحديدًا وعلى الوطن عامة !…
لا يكفي ومن غير المقبول التبجح والتغني المستمرين بأمجاد الماضي والتفاخر بما كان منا من نوابغ ومعلمين كبار وفي المقابل تكون المسافة بين خطابنا ولغتنا وبين خطابهم ولغتهم كالمسافة بين الأرض والمريخ !…
على المسيحيين أن يعوا أن بقائهم على هذه الأرض المميزة بجمالها الساحر التي إسمها لبنان يوجب عليهم أن يكونوا على مستوى المسؤولية التاريخية في إختيار ممثليهم المعبرين بشفافية وحرص وجدية عن الإرث الحضاري وعن مصلحة وطنهم العليا كيلا يأتي زمن وقد بدأنا نرى ملامحه لن ينفع معه الندم بعد أن يصبح الشعب بأكمله ومن ضمنه المسيحيون مشتتين في بلاد الإغتراب !…
قد يقول قائل ليست علة المسيحيين في قادتهم فقط وإنما الشريك الآخر في الوطن وبعض الجوار يتحمل بعض المسؤولية فيما وصل اليه حال المسيحيين وفي ذلك بعض الصواب ولكن تبقى العلة القاتلة هي في المنطلقات والخطاب وفي الخيارات والتاريخ الحديث فيه الكثير من الشواهد على كلامنا !!!…
في الختام نتوجه بكل محبة الى بعض الذين قد يستفزهم هذا المقال بأن يتمعنوا جيدًا بمضمونه وتأمله بعمق وموضوعية ومن دون إنفعال لأن ليس القصد منه المس بصورة القادة ” القديسين” الذين “يعبدهم” (!) هذا البعض وإنما الإضاءة ولفت النظر الى الخطورة التي يرتبها قصر النظر وعدم تحمل المسؤولية التاريخية في الإنتقاء وما يمكن أن تؤول اليه الأمور من تعاسة وشقاء !…

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »