خاص ليبابيديارانيا محيو الخليليكتّاب الموقعكتاب وآراء

ضمائر من زجاج

رانيا محيو الخليلي

لطالما تردد على مسامعنا المثل الشعبي القديم: «من كان بيته من زجاج لا يرمي الناس بحجارة». والمغزى منه أنّ من كان في وضع «مريب» لا يتعدى على الآخرين لأنهم لو ردوا أذاه سيُلحقون به أشدّ الضرروسيُصيبونه في مقتل. لكن اليوم ومع تلاشي الأخلاق والمُثل والمبادئ وتغييب سلطة القانون والعقاب بتعطيلها وتأجيلها وتأخير مفاعيلها، أصبح أصحاب البيوت من زجاج يرشقون أصحاب البيوت من فولاذ بالحجارة وبغيرها من الأدوات المؤذية وبقلب جامد.

مشهدية نوعًا ما سريالية أجّجت مفاعيل الغضب والتوتر والتراشق الكلامي والفعلي والمحاسبة الفردية بين البشر. شيئًا فشيئًا تلاشت كل أواصر العقل والتفاهم والود لحل النزاعات التي تطرأ بين الأفراد، لأنه كما يقول مثل آخر«من أمن العقاب أساء الأدب». إنّها شريعة الغاب التي بدأت تسود وتتعزز مقابل المشورة الحسنة وتحكيم الضمير. وبالبحث عن مرجع أو قدوة يعظ وينبّه نستذكر بحسرة آخر من رحل منهم ونتمنى لو كان لا يزال بيننا.

الإنسان اليوم أصبح يتبع غريزته ونفسه الأمّارة بالسوء ويرى الإنسان الذي يقابله أنه عدو محتمل أو مشروع منفعة، حتى لو كان قريب أوصديق، ويجب أن يتأهب للانقضاض عليه إن سنحت الفرصة. هذا في حال لم يزدريه لاعتبار نفسه «قصة كبيرة» أمام ما أنجزه من مكانة وهمية بوضعه المريب.  طغت المادة ومعها المصلحة، كما طغى انعدام الإحساس بالآخر وبألمه ووجعه وتربّعت الأنانية على قمة العلاقات الإنسانية.

هكذا، وبهذه الصورة القاتمة أصبحتُ أرى الحياة، واكتسبت من هذه الرؤية حسنة وحيدة وهي: ألا أنتظر الخير حتى يأتيني. أصبحتُ أنتظر اجتياز عواصف وأعاصير ريثما أتخطى الشر وأتقبله، أمّا الخير فيئست من انتظاره، وتوصلت لقناعة أنه لن يأتي إلا إن توقفت عن انتظاره. هي ليست مرحلة وستمر من عمري، إنها خلاصة عمر انقضى في الأمل والترقّب بغدٍ أفضل. لكن وبما أنّ الماضي موجع، والحاضر مؤلم، سيصل الغد مُنهكًا وجريحًا بعد أن ضمّد نفسه بنفسه لنستقبله بأقل أضرار ممكنة.

قد يكون في كل ذلك «حكمة» أو ربما «نضج»، لكن هل يجب على الإنسان الطيّب الذي أخذ الحياة بحسن نية أن يدفع كل هذه الأثمان من الشقاء والعذاب ليستحصل على الشهادة بالنضج؟ الإجابة قد تختلف من إنسان لآخر ومن تجربة لأخرى، كما أنّ ليس كل إنسان مؤهل للاكتساب من تجربته والنهوض من كبوته. نحن نعيش في زمن صعب جدًا، التراشق فيه مستمروكثيف لدرجة أننا لم نعد نعلم من يرشق من ومن عدو من، ومن صديق من. إنه زمن تساقط الأقنعة والزيف وهي أكثر مرحلة صعبة يمكن لأصحاب الحق التواجه فيها مع سالبي الحق. البيوت حتى لوكانت من زجاج سكانها يعيشون حالة إنكار لوهنها اللاأخلاقي. ومع أنها سريعة الخدش والتشقق بفعل عوامل الفساد والجشع والأذى، لكنهم لم يكترثوا، أو يرتعبوا، أو يرتعدوا لخدشها أو كسرها وتحويلها هشيمًا، ليس لأنهم يمتلكون القدرة لإعادة بنائها أوترميمها، ولكن لأنّ ضمائرهم هي التي بالأصل من زجاج… ولكن لم يصبها أحد بالرشق.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »