كتاب وآراء

د.هشام الأعور – الراهب الأنطوني، الأب روحانا، ونظرية “التكاؤن” لإنقاذ لبنان الرسالة

التكاؤن ” يريد الخروج بالإنسان من الكهف إلى النور ،وبهذا فهو يرفض من أوصل الإنسان في لبناننا إلى حالة أهل الكهف، ولو على حساب أغلى ما وهبنا الله إياه.



نظرية الأب د. ميخائيل روحانا الأنطوني حول “التكاؤن” هي، منذ سنة تقريبا، موضوع نقاش وجدل.وقد وردت في كتابه عن “الجمهورية الخامسة” الذيطرح فيه رؤيته الفلسفية الدستورية للبنان الجديد الصاعد من عمق حفرة التخلف صعود الفينيق من رماده.

هي نظرية وُلدت، كما يقول الأب الأنطوني، من رَحِمِ الألم إثْرَ تدنيس أرض لبنان بوطء أقدام جيش دولة غاصبة أسمها، تزويرا، “إسرائيل”. على أن ما أذلهحينها ليس غلبة العدو وغلاظته وتفوّقه العسكري إنما ضعفُ نظامنا وانقساماتُ شعبنا العامودية وسقوطُه المرير تحت سلاح “البروباغاندا” المستوردة، سواء اليسارية منها أو اليمينية، اللتين كانتا مُحرَّكّتين من المصدر نفسه، ومستندتين إلى عامل غريب عن الشعب اللبناني، نقصد العامل الفلسطيني، الذي أُدخل مهجَّرا، مظلوما، إلى ربوعنا وسرعان ما تحوّل إلى حصان طروادة في قلب مدننا وشرايين وطننا.

إثر هذا السقوط المرير وما سبقه وما تبعه من اغتيالات وجرائم ضد الإنسانية، سقط مبدأ العيش المشترك من منطلقات الأب روحانا المنطقية، وما أكثر من ينادون بإسقاطه اليوم واصفينه بالتكاذبي مطالبين بالعودة إلى التقسيم. لكن الأب روحانا استبق إهانة عقول وقلوب من أسّسوا لبنان الجمهورية والدولة وبنوهعلى هذا المبدأ الذي كان له كل المعنى في حينه، في البداية، واقترح الترقي به إلى التكاؤن، المبدأ الأصلح لمستقبل وطن بات التواصل الاجتماعي والتطور الكونيفيه بين أصابع أجياله وما من مجال لحجبه عنها أو منعها منه. ولتوضيح هذا الترقي للعقل الاجتماعي اللبناني يقول: لكي نعرف الفرق بين العيش المشترك والتكاؤن على كلً منا ان يدرك الفرق بين الملكية (ما أملك) والكينونة (من أنا؟) ولم يتوان منذ سنة 1985، مع رفاق له، عن أي بحث في اللغات والفلسفة والعلم ليتوصل إلى ما سنحاول نقله لكم بكل دقة، بعد مراجعتهحكما:

الفرق بين العيش المشترك (التعايش ضمنا)والتكاؤن ينطلق من الفرق بين ما يملك الأنسان وما يشكل كيانه. هل القيمة الأولى للإنسان هي بما يملك أم بما هو من كيانٍ قائم بحد ذاته؟ وهذه الإشكالية استمدَّها من مَثيلةٍ أخرى لها مطروحة على صعيد الفكر العالمي تحت عناوين مثل “l’être et l’avoir” “To have or to be” والتي دفعت بجبران خليل جبران مثلا للقول يوما: “إنك لتعطي القليل حين تعطي مما تملك، فإذا أعطيت من ذاتك أعطيت حقا” وهو، آنذاك، كان يتحدث عن وطنه لبنان في أسوأ أيامه وحاجاته، وانتهى بالقول الشهير الذي ردده يوما الرئيس الأمريكي جون كندي: “لا تسأل ماذا أعطاني وطني، بل اسأل نفسك ماذا أعطيتَ وطنك؟”

ومن دون أن نستعيد الجدل الفلسفي واللغوي الذي ورد في كتب الأب روحانا يتضح من كلمات جبران أهميةإدراك الإنسان لذاته ووعيه لكينونته كي يتمكن من التمييز بين متى وكيف يعطي من ذاته، من كينونته التي اسمها “الأنا” ومتى يعطي فقط مما يملك أو قل من قشور ما يملك. أليس غياب هذا الإدراك ما جعل تكوين الشعب اللبناني وعيشه المشترك هشا قابلا للسقوط عند أي تدخل خارجي واعدٍ للأنا الطماعة بزيادة مُلكها على حساب مُلك الآخر؟ أليس هذا ما ورثناه من زمن العثمانيين وما يعيدنا في كل مرة، بالمشهدية ذاتها، إلى زمن القبائل والعشائر والحروب في سبيل الكلأ والماء،والغنائم وسبي النساء؟ أليس هذا ما اتحفنا به مخرجو درامية “داعش” لكي يصوروا للعالم بأن هذه هي حضارة الإسلام والعرب، من دون استثناء لبنان؟

إذا، بما ان العيش المشترك قائم أساسا، وبحسب مفهوم الكلمة، على تقاسم الكلأ والماء وفتح العين على ما يملك الاخر من المال والسلطة إلخ … فلا بد ان يستمر التحاسد والتخاصم، ليس فقط بين المجموعات التي توافقت على إعلان دولة لبنان الكبير، إنما بينهم جميعا وبين الدولة التي ورثوها، في ما تملك قانونا من مشاع وأملاك عامة بحرية ونهرية، إذ في ذهنهم أنها استمرارللسلطنة العثمانية التي كانت سرقة اموالها الأميريةوالتعدي عليها بطولة. حتى القطاع العام الذي يخدمهم، لم يتم استثناؤه، راحوا يعطلونه لحساب المصالح الخاصة مقابل الربح السريع – البرطيل –، وكأن شيئا لم يتغير في ذهن المواطنين الجدد. وما أتت به الحربمنذ 1975 من قتال وتهجير بين من وضعوا يدهم بيد الغريب واستساغوا إما السيطرة على كل الوطن او تقسيمه إلى إمارات ومقاطعات حزبية، أسقطت ورقة التين عن التحاسد والتباغض والجشع والتعدي على السلطة والمال العام من قبل الأنانيات الطماعة التي تسترت بالحقوق الطائفية لتضع يدها حتى على الطوائف والأوقاف، مال الله والفقراء، فلا تعود تعيش الأخيرة سوى من رحمتها. لهذا كله، ومع وضع الإصبع بهذا الجرح النتن وإدراك أسسه ومكامنه التاريخية والوجدانية في العقل اللبناني الباطن، والتي طالب الكاتب، بالمقدمة الفلسفية لكتابه، جميع الفرقاء الترفع عنها والتحرر من تراكم تأثيراتها النفسية التاريخية المعطلة بالعمق لإقامة وطن سليم، كانت فكرة إضاءة شمعة بدل لعن الظلام: كانت نظرية التكاؤن.

التكاؤن، يقول المؤلف، اسم مصدر مبني على فعل “كأن” وليس على فعل كان الماضي الناقص إذ كل ما يُبنى على ناقص يبقى ناقصا. وهذه إشكالية لغوية قام صاحب رؤية الجمهورية الخامسة، بالتعاون مع لغويين آخرين، بالاستعانة باللغة السريانية على حلها، فاشتق فعل “كأن”، الذي له بعض الترددات في اللغة العربية،إنما غير وارد في القواميس، ليضفوا عليه المعنى الديناميكي الذي يساهم في إيجاد تعريب صحيح لمعادلة الفيلسوف الفرنسي ديكارت القائل “Je pense, donc je suis” ما يترجم “I think, therefore I am” والمعرّبة خطأ “انا أفكر، إذا أنا موجود”، بينما يجب أن يكون التعريب “أنا أفكر، إذا أنا كائن”، منقذين بهذا الابتكارالعقل المفكر أولا، وبالتالي الكينونة.

أنا كائن يعني أنا صاحب فكر حرّ، مدرك لذاتي، لكينونتي، ومدرك أنني مدرك لها ولما لها ولما عليها. فكيف أكون إنسانا عاقلا حرا قادرا على بناء علاقة صالحة،عائلة صالحة، مجتمع صالح ودولة ووطن كريمين إن لم أكن أدرك كينونتي وأميّزها عن كينونة الآخر وأخضعها لقبول الآخر للعبور من الأنا الجاهلة إلى الـ “نحن” العاقلة، الثابتة، المتكائنة بدورها، والتي، إن عادت وفقدت جزءًا منها تفقد، لولا رحمة الكائن الأعظم، كينونتهابالكامل؟ لكنها تبقى غير مستقرة حتى تعود إلى ما كانت عليه أو إلى تكاؤن آخر.

كل هذا يصب في خانة الإشكالية الفلسفية الواردة أعلاه “الملك أولاً أم الكينونة – To have or to be”، وما هو الأصلح لبناء وطن ثابت سليم. ويضيف الأب روحانا مراجع فلسفية أخرى نتركها للاختصاصيين.

في الختام، للإجابة على السؤال الأساس “أي لبنان نريد؟” لا بد من الوقوف عند حقيقة دامغة: كم هيأهمية إدراك ووعي ما هو للـ “نحن” لاستمرار ما هو للـ “أنا”، أي أهمية الكينونة القانونية المعنوية التي تؤسس،بقوة التوافق والقانون، ثم الديمقراطية، لما هو حق عام،قطاع عام وصالح عام. أما كان التعامي عن هذه الحقيقة خلف تدمير كل ما هو عام لصالح الخاص، تفتيت الدولة بالفساد الأناني الذي لا يعرف اكتفاء؟ أليس هذا ما فكك العائلة والجماعة والطوائف حتى الوطن، ما اضطر كل واع مدرك لخطورة فقدان العدالة والصالح العام أن يحزم امتعته ويرحل؟

إن الترقي من حالة العيش المشترك إلى التكاؤن هو الطريق المعبد بالحكمة لإنقاذ الوطن من الموت السريري لما يعطيه من امل واقعي ملموس. أهم ما فيه هو أنه لا يوفر أي مواطن، من الأطفال في المدارس حتى الكهول في المآوي، يلزمهم جميعا بالدخول في نوع من التفكيرلإدراك الذات والتعويض عن كل ما فاتهم من الكينونة العاقلة، المدركة لذاتها، بسبب الاتكال على الآخرين بالتفكير عنهم. فيأتي التكاؤن واحترام الصالح العام بكل أنواعه، والتضحيات الأنانية التي ترافقه مهما كانت أليمة، لتحقيق هذا اللبنان الجديد، لبنان الرسالة الدينامية الذي ترمز إليه رؤية الجمهورية الخامسة.

حقا يقول الأب روحانا: “ليس بتسوّل الأموال ولا باقتراضها ولا بالهبات المشروطة ولا بتعليق المشانق لمن خان أمانة الشعب ونهب المال العام يُنقذ الوطن، إنما بتصحيح القواعد الدستورية التي أسَّست للخيانة والجرائم العامة، وعطّلت المراجع الدستورية واستقلالية القضاء وخربت الأخلاق. المطلوب الوحيد هو أن ننتقل بلبناننا من مفهوم العيش المشترك المنتهية صلاحيته، إلى التكاؤن، مُسخرين كل ما يمكن من انانيات ونرجسيات للتوصل إلى هذا الهدف، المساواة في المواطنة، المشاركة العادلة في الحكم، أولوية الصالح العام وكرامة الإنسان”.

مصدر https://socialhiwar.osinode.com/news/17/

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »