الدكتور نسر حدادخاص ليبابيدياكتّاب الموقع

د. نسر حداد: “أبعد بكثير من حرب …!”

 

إنها بلا شك واحدة من حروب قليلة جدا” في التاريخ بهذه الخصوصية وبتلك المعاني الفلسفية إن جاز التعبير التي تنطوي عليها الحرب على غزة وهي حرب سيكتب المستقبل الكثير عنها بسبب طبيعتها الغريبة والغير عادية والتي كما قلنا تحمل دلالات فلسفية عميقة سنأتي على ذكرها …
تنقسم الحروب العسكرية بحسب التعريف الشائع الى حروب كلاسيكية وغير كلاسيكية ، الأولى تكون بين جيشين نظاميين بالحد الأدنى يحدث بينهما في لحظة تاريخية معينة تصادم على شكل حرب تنتهي بإنتصار إحد الجيشين أو بعدم هزيمة أي منهما و بأحسن الأحوال تبرم معاهدة سلام دائمة بينهما ، بينما الحرب الغير كلاسيكية تحصل عادة بين جيش نظامي ومنظمة مسلحة (مقاومة شعبية وطنية) وهذا ما يسمونه بحرب العصابات التي تأخذ شكل الكر~ والفر~ وغالبًا تكون الغلبة فيها للمقاومة رغم عدم تناسب ميزان القوة بين الطرفين ولنا من حرب فيتنام والصراعات في منطقتنا أمثلة عديدة على هذا النوع من الحروب …
إن العدوان الذي نشاهده على غزة وإن كان يندرج ضمن فئة الحرب الغير كلاسيكية لكنه تجاوز في مدلولاته كافة أشكال الحروب وفظائعها وانطوى على فيض من الدلالات الفلسفية التى تمس المفاهيم القيمية والحقوقية والإنسانية وتطرح تساؤلات عميقة عن معنى الوجود الإنساني في عصر “متمدن” يفترض ألا يشكل هكذا نوع من الحروب سببًا للارتياب والشك المشروعين بكافة المفاهيم البديهية المتمحورة حول الحق في الحياة أولًا والعدالة ثانيًا والمحاسبة ثالثًا، وقس عليها من المفاهيم القيمية التي تعطي للوجود الإنساني وللحياة معناهما وإلا انتفى المعنى من هذا الوجود كوجود عاقل أساسه الحق والخير والعدل وليس وجود محكوم بشريعة الغاب وغلبة القوة !!!
فلنبدأ بالملاحظات الأولية عن مجمل المشهد لنصل الى الخلاصات حول هذه الحرب التي تجاوزت المعقول بكافة المقاييس والمعايير !…
غزة قطاع جغرافي يضم مجموعة من البشر واقعة تحت إحتلال همجي وقمع وحشي لقرابة الثمانية عقود وهي تعاني حصارًا جائرًا منذ ستة عشر عامًا يكاد يقطع عنها حتى الهواء ، قررت فئات مقاومة من شعبها الانتفاض على الواقع المرير وإنقضّت على سجّانها في السابع من تشرين في ذاك اليوم الذي أطلق عليه اسم طوفان الأقصى فماذا كانت ردة فعل المحتل؟!!
إبادة جماعية عملًا بسياسة الأرض المحروقة وتنفيذًا لمخطط قديم بتفريغ غزة من سكانها وتهجيرهم الى سيناء أو أي مكان آخر في العالم ، سردية باتت معلومة للعالم بأسره ، هذا العالم الذي يقف متفرجًا ومنددًا بالصراخ والجعجعة من بعيد من باب تبرئة الذمة بأفضل الأحوال !!!
هنا تحديدًا إزاء هذا المشهد بالذات (العجز الكامل ) تومض الشرارات الفلسفية في وجه هذا العالم (الحكومات) وتجعله يقف متأملًا ذاته في المرآة عله يجد تفسيرًا لصمته المدوي بقبحه ويعثر على جواب عن سكوته المجلجل بتخاذله وخنوعه أمام الغطرسة والتمادي المذل والمهين للقيم الإنسانية والمحقر للجنس البشري المدعي التمدن والتحرر من ظلمة كهوف ما قبل التاريخ !!!
هنا أمام مشهدية سفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ ، وأمام هستيريا طمس ذاكرة المدن والشوارع والمساجد والكنائس ، وأمام الحقد السافر عن وجهه المنتصب كالأفعى فوق ركام المدارس والجامعات معاقل العلم والنور ، وأمام بربرية إقتحام المستشفيات وقتل المرضى والجرحى في أسرتهم ، أمام هذا العار كله ماذا بقي من هذا العالم ، من معنى الوجود ، من الحق ، من العدل ، من الرحمة ، من الأمل بالغد ، من الإنسان المتبجح بتحضره وإرتقاءه عن الوحوش وهو الذي نراه يركع ضعيفًا، جبانًا، خانعًا أمام جبروت الباطل يتأمل من بعيد كيف تذبح الإنسانية والقيم والقانون ويجوع الأطفال حتى الموت وكيف يمارس السفاح ساديته ودمويته في تحد سافر ومحقر لهذا العالم الذليل ؟!
ماذا بقي من معنى لهذا الوجود ؟!
هل ما زال هنالك من قيمة للإنسان ؟!
هل الدم استحال ماءً رخيصًا فحلل هدره ؟!
هل أصبح ذبح الإنسان مباحًا على مبدأ الذبح الحلال للطيور والبهائم ؟!
هل هنالك عبث أقبح وأوجع من هذا العبث ؟!
هل هناك من يستشعر بعد نكهة لحياة مفتوحة شهيتها على الدم والإجرام ؟!
ومن يجزم بأن هذا الجنون الدموي لن يتكرر هنا وهناك وهنالك ؟!
تتواتر وتتواتر التساؤلات الفلسفية إزاء هذه العبثية التي تحكم حياتنا وأمام هذا العجز المجلجل !!!
قيل فيما مضى “عند الإمتحان يكرم المرء أو يهان” !
هل هنالك أهم من هذا الإمتحان للبشرية كي تؤكد إنسانيتها وإستماتتها في الدفاع عن معنى وجودها ؟! لكن ماذا فعلت بدل ذلك ؟!
لقد أهانت نفسها بسكوتها وتسترها على جريمة إغتصاب شرفها والدوس على كرامتها من قبل برابرة هذا الزمن الرديء فرسبت شر رسوب في الإمتحان وفشلت في نفي صفة الذل والسقوط عنها !!!
حتى لو توقفت الحرب اليوم قبل الغد فلا شيء سيمحو العار عن البشرية جمعاء وليس هنالك من قوة تعيد لهذا الوجود معناه إلا إذا سحق تنين الباطل بسيف الحق سحقا” لا قيام له بعده !…

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »