كتاب وآراء

رانيا محيو الخليلي: الكتابة الوجودية «أنا أفكر بالعربي!».

مقال للأديبة والروائية اللبنانية “رانيا محيو الخليلي ” في صحيفة “الأيام نيوز” في الجزائر ضمن ملف استطلاعي”الأدب والمجتمع.. علاقة لها تاريخ وأسرار”. بتاريخ 18 كانون الثاني/يناير/جانفي 2024.
كنت سنة ثالثة جامعة، وصلت باكرًا لحضور مُحاضرة النقد الأدبي، وكذلك فعل الأستاذ المُحاضِر. بانتظار اكتمال العدد في الصف تناول الأستاذ فرضي الذي صححه قائلاً لي بأنه سيكافئني على حضوري المبكر بمناقشة ما كتبته وكأنّه درس خصوصي. تناقشنا في فرضي وفي أمور أدبية أخرى، ثم توقف مُستطرِدًا: «عندي لك نصيحة ستتذكرينها يومًا ما سواء عملتِ بها أم لا. أنت تتمتعين بأسلوب في الكتابة مميّز، بعض الأفكار التي أقرأها في كتاباتك أتوقف عندها. تتمتعين بكل خصائص الكاتب الناجح، وهاأنت تصقلين موهبتك بالعلم. لكنك إن بقيتِ تكتبين باللغة العربية لن يلتفت لك أحد وستعانين كثيرًا إن لم تستسلمي وقررت استكمال حياتك في مسار الكتابة الأدبية. أنت تدرسين الأدب الفرنسي، لماذا لا تحوّلي كتاباتك للغة الفرنسية؟ كتابتك باللغة العربية ستقضي عليك. الأوساط الأدبية العربية لديها محسوبيات تترفع عن الموهبة والقدرات الإبداعية. وأنت حسب مثاليتك الواضحة واستقلالية شخصيتك لا أتوقع أنك ستكونين قادرة على التغلب عليها. دعك من الكتابة باللغة العربية واكتبي باللغة الفرنسية».
كنتُ أستمع باهتمام شديد لكل ما يقوله واكتشفت أني بقرارة نفسي أعلم ذلك جيّدًا، والدي لا يزال يعاني من الإقصاء والإجحاف فأنا تربيت على أجواء معاناته. لكن كل ذلك لم يكن مبررًا لأستسلم، كان لدي أمل أن تكون مسيرتي أهنأ من مسيرة والدي، لا سيما أنه اختار مجال الكتابة الصحفية، أما أنا فقد اخترت مسار الكتابة الأدبية.
فقلتُ لأستاذي بكل ثقة: «أنا أفكر بالعربي، كيف بمقدوري الكتابة عن بيئتي وعن مشاكلها وهواجسها بلغة غير لغتها؟ حتى لو حاولت لن أستطيع فأنا أفكر بالعربي، وكتابتي ستكون مصطنعة وفاقدة لروحها وصدقها، فمعيار الإبداع هو الصدق».
فسألني: «لماذا اخترتِ إذن دراسة الأدب الفرنسي؟».
فكان ردي الذي أكرره منذ أكثر من ربع قرن: «لأن الأدب العربي ليس فيه التنوع في الأدب الغربي والفرنسي لاسيما في مجال الرواية. هل هناك ما يمنع أن أستمد من رحيق الأدب الفرنسي لأصنع منه شهد الأدب العربي؟».
فقال لي ضاحكًا: «أي رحيق وأي شهد هذا الذي تتكلمين عنه؟! أتمنى لك الكثير من القوة والشجاعة في رحلة الشقاء والعذاب التي اخترتِ أن تسلكيها. ولا تنسي أني يومًا ما نصحتك!».
كانت نصيحة ثمينة لو كانت فعلاً تعنيني، ولم تتوقف النصائح عندها. فحين قررت دخول عالم النشر توالت علي النصائح ولكن هذه المرة بمقابل مغرٍ: «لو دخلتِ أجواءنا ستشاركين بكل المعارض العربية، وستفوزين بالجوائز وستنتشر رواياتك في كل المكتبات»، «قلمك هادف ومؤثر ويصيب لو هاجمت اللغة والتراث ووجهت كتاباتك على هذا النحو سنُطلقك بعالم كتابة الرواية الشاسع وسنوصلك للعالمية لأننا سنسعى لترجمة رواياتك لكل لغات العالم»… .
طبعًا العروض مغرية جدًا، لكني لم أفكر فيها حتى لا بل وجهت سهامي نحوها بانتقادها وتسليط الضوء على فسادها. ولم أكن أعلم أني بكل هذه المواجهة وضعت نفسي في قلب المعركة… وحدي.
في هذه المرحلة اكتشفت أني لا أفكر فقط بالعربي، وإنما أعيش بالتراث العربي وبالمُثل والأخلاق العربية. كان كل هاجسي الكتابة الأدبية ولم أتوقع أن العوائق كانت في تحديد الفكر الذي سأنتهجه للكتابة الأدبية. كيف لي أن أتخذ من الكتابة غاية للانتشار على سبيل هدم لغة وتراث؟ لغتي وتراثي؟ كيف لي أن أتجرد من هويتي ومن ذاتي لنيل جائزة أو الحصول على دعوة؟ هل هذا المقابل يستحق أن أخسر بسببه نفسي؟
من مدة سنوات قررت متابعة دراستي وإتمام رسالة الماستر وكان عنوانها: «سيمون دوبفوار الثائرة الملتزمة». قبلت اللجنة العنوان على الرغم من أن باب الأبحاث حول سيمون دوبفوار قد أُقفِل لأنه استُنفد. لكنهم وجدوا في دراستي أمرًا جاذبًا وجديدًا، كيف يمكن لسيدة «النسوية» أن تكون ملتزمة؟
كانت دراستي حول مجلدات مذكراتها، فسيمون دوبفوار الملحدة كتبت في مذكراتها عن الكنائس والكاتدرائيات في كل بلد قامت بزيارته، كانت تشعر بانبهار واعتزاز في زيارتها هذه الأماكن الدينية ولم يرد أي تلميح ولو طفيف في كل تلك المذكرات لهدم هذا التراث الذي تنتمي إليه وتعترف أنها لا تؤمن به. لكنه كان تراثًا، تراثها الذي تفتخر به، ولا يمكن لأي مفكر أو مثقف أن يطالب بهدم أي تراث حتى لو لم يتوافق معه. لأنّ التراث تاريخ، والمستقبل هو امتداد للتاريخ.
سيمون دوبوفوار التي ارتضت حياة التحرر وتعدد العلاقات لم أجد في سردها لحياتها الخاصة ما يبوح بتلك الجرأة الحميمية التي أطلقتها في كتبها الفلسفية وفي حياتها. كانت تكتب برصانة الراهبة التي تخشى الفسق وتعلم عواقبه. حتى بروايتيها «المدعوة» و«المثقفون» التي حصلت فيها على جائزة الغونكور كانت رصينة وملتزمة ولم تعتمد الإبتذال لتوصيل فكرها.
أمر استوقفني وجعلني أبحث عن خلفياته، لا سيما أنها حققت نجاحًا على صعيد مذكراتها أكثر مما حققته في مؤلفاتها الأخرى. والسبب يعود في ذلك لأمرين: الأول وهو أنّ الصدق هو الذي يصل للقارىء، وثانيًا أنّ الإنسان السوي مهما كانت درجة تحرره يبقى لديه بعض من حياء وبعض من وفاء لتربيته وأصوله الأولى. هذا الوفاء هو للهوية الوجودية الإنسانية التي ولد عليها.
أكثر ما يشي بحقيقة أي إنسان هي الكتابة، الكتابة هي بوح اللاوعي، وإن تجردت الكتابة من هويتها تجردت من كل مضامينها ولم تعد مؤثرة. المضمون الأول للكتابة هو اللغة وبعده تتجلى كل العوامل المرتبطة بهذه اللغة، إن فقد الكاتب أي منها فقد هويته ووجوده ولم يعد هناك داع ليستمر بالكتابة. بالمحصلة إن خسرها سيتوقف تلقائيًا وتدريجيًا عن الكتابة.
زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »