كتاب وآراء

“الحوار المجتمعي” من اجل فتح كوة في جدار الأزمة العصيّة؟ بقلم الدكتور هشام الأعور

إنّ البحث في نظرية “الحوار المجتمعي”، من اجل الوطن، الدولة، والمستقبل، يزداد إلحاحاً، فعندما نواجه أزمة خطيرة تصل إلى انقسام كل شيء وتشظّيه كالتي يعيشها بلدنا اليوم، بينما يمرّ عالم اليوم بتحوّل تاريخي غير مسبوق، يصبح حريّاً بنا أن نبحث أعمق ولا نبقى رهناً للمجريات. فإذا لم نشخّص داءنا لن نشخّص دواءنا. ولكن هل لنا أن نغرق في سبات بانتظار النتائج، أم أنّ في الأمر تهديداً لمستقبلنا؟ فتحدّي الحضور، بل والوجود والاستمرار، مقترن بعقد العزم على الحوار وإنتاج فكرة تقنع الشعب، فضلاً عن الغير، بمبررات الوجود وحاجة الحضارة الانسانية. إنّ كياناً لا تحتاج إليه الحضارة الإنسانية لن يكون إلا تجميعاً كميّاً فحسب، وسيفقد معناه ويتلاشى عاجلاً أو آجلاً في عالم هادر لا يهدأ، ناهيك أنّ كل ما دون المعنى والقضايا المتسامية لا يليق بالكرامة الإنسانية والإنسان..

 

 

من حيث وصلت فينا الأمور في الكيان اللبناني  إلى انعدام تام للثقة بين القوى والاحزاب الطوائفية الممسكة بمصير السياسة والاقتصاد فيه، وبالتالي الخطر الدامغ على استمرار عمل المؤسسات، باتت الحاجة  لتفعيل نظرية “الحوار المجتمعي” الذي يعتبر حجر الزاوية في بناء المستقبل الأفضل، والمدخل الصحيح لأي اصلاح داخلي في تحقيق ترتيبات دستورية سليمة من شأنها الحفاظ على الصيغة التعددية للمجتمع اللبناني، عِلمًا بأنّ المشكلة الآن ليست فقط في غياب الحياة الديمقراطية السليمة، بل أيضًا في ضعف الهُويّة الوطنية المشتركة وطغيان الهُويات الطائفية والمذهبية على الحياة العامة. وفي محصّلة هذا الواقع تكمن مخاطر الانقسامات الداخلية، وبذلك تصبح نظرية “الحوار المجتمعي  “لا مجرّد حلٍّ فقط لأزمة العلاقات بين الطوائف اللبنانية، بل أيضًا سياجًا ثقافيًّا واجتماعيًّا لحماية الوحدة الوطنية إذ حينما تضعف الهُويّة الوطنية فإنّ بدائلها هي حتما الانقسامات الحادّة والحروب الأهلية التي من شأنها أن تأكل الأخضر واليابس معًا.

إنّ نظرية “الحوار المجتمعي “كهويّة جامعة هي حاجةٌ قصوى الآن لحماية مجتمعنا  في الداخل، ولتحصينه من هيمنة الخارج، ولبناء أسس سليمة لتكامل مشترك وفعّال في المستقبل

على صعيد المؤسسات الدستورية.

إن نظرية “الحوار المجتمعي ” المنشودة ليست دعوةً لتكرار التجارب السياسية والحزبية التي جرت بأسماء قومية ووطنية في مراحل مختلفة من القرن العشرين، بل هي عودةٌ إلى أصالة هذا الكيان اللبناني ودوره الحضاري والثقافي الرافض للتعصّب وللانغلاق وللعنصرية. ومن دون “حوار مجتمعي” جامع لن يكون  هناك لبنان واحد موحد.

 

إنّ “الكلّ اللبناني” هو مكوَّن أصلًا من “أجزاء” مترابطة ومتكاملة. “فالحوار المجتمعي” هو فعل وعي لا يلغي، ولا يتناقض مع  خصوصية الانتماءات العائلية، القبلية، العشائرية أو الأصول الإثنية، بل يحدّده في أطار علاقة الجزء مع الكل.

إنّ “الحوار المجتمعي “هو تعبير يرتبط بمسألة الهويّة الوطنية، يحمل سمات ومضامين فلسفية اجتماعية صالحة لكي تتميّز بها الجماعة اللبنانية المتكاملة، وهي – أي السمات والمضامين–  تعني إما نهجًا اجتماعيا، أو نظامًا للحكم، أو مضمونًا عَقَديًّا جديدا بين اللبنانيين.

ان تعبير “الفكر الحواري” يتصل مباشرة بمسألة الهويّة كإطار أو كوعاء ثقافي له. ولذلك يكون مفهوم “الحوار المجتمعي ” هو  السبيل لتعزيز اواصر التكامل الوطني ،وتفعيل التعددية المجتمعية حتّى لا تختلط مسألة الهويّة الوطنية المشتركة بين اللبنانيين مع قضايا الأعراف والأيديولوجيات التقسيمية الوصولية المتنوّعة وسط نوع من السياسيين الاحتكاريين الوصوليين من أي إثنية أو دين كانوا.

إنّ الشخص اللبناني هو الإنسان المنتمي للثقافة العربية حاملة الثقافات الاغريقية والفارسية إلى الغرب، والمطعم بالثقافة الغربية العائدة إلى الفرس والإغريق على متن الثقافة العربية، ما يجعل هويّته لا ترتبط حصرا بعرق أو دين، ولا بموقف سياسي أو منظور أيديولوجي. فيكون “الحوار المجتمعي” هو التعبير الأنسب عن انتمائه إلى أمّة لها خصائص تختلف عن القوميات والأمم الأخرى حتّى في دائرة العالم. فتبني “الحوار المجتمعي ” يعني الترقي بالانتماءات المتعددة المؤسِّسة للوطن او الأمة إلى انتماء بالمواطنة إلى وطن موحد الأوصال، يعبّر مستقبلًا عن نفسه بشكل من أشكال التكامل بين ابنائه على قاعدة عدم احتكار السلطة وتقاسمها بين الفئات الضاغطة على اقتصاده وعلى طوائفه، ومحتمية بالعصبية الدينية لتخفي صنميّتها وخضوعها لقيود المال والتملك.

 

إنّ “الحوار المجتمعي “، كمنطق وثقافة ، هو هوية انتماء وطني حضاري ثقافي يخرج الثقافة السياسية والدستورية من دائرتي الاقطاعَين السياسي والطائفي إلى دائرة تتّسع في تعريفها لكل ما  يندمج في الثقافة الوطنية والمواطنة، مخضعا لهما كل ما يُبعد ويَخلُف، ومتمسكا بكل ما يجمع ويوحد الرأي والرؤيا.

نحن اليوم بحاجة الى  “حوار مجتمعي” جادّ يعمل على اصلاح الدستور اللبناني ليصبح ركيزة لا عيب فيها لمستقبل لبنان، ويحرص على الهويّة الثقافيّة الوطنية ومضمونها الحضاري، وينطلق من أرضيّة وطنيّة مشتركة تعتمد مفهوم المواطنة، لا الانتماء الطّائفي أو المناطقي أو الزبائني، ويستهدف الوصول – بأساليب ديمقراطيّة بشكل عام، توافقية حيث الضرورة، لا عنفيّة بشكل دائم – إلى ” وطن القانون” حيث الأولوية فيه هي للصالح العام وكرامة الإنسان، ولا يعارض أبدا الاقتصاد الحر والملكية الخاصة، وتتساوى فيه حقوق المواطنين وواجباتهم.

الحوار المجتمعي

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »