أخبار لبنانمتفرقات

د. ليليان قربان عقل: “إنّ الحديثَ عن الفكر المدني كأساس لنشوء المجتمع المدني لا يزال القضية المحوريّة في حياتِنا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة العصرية.

انعقد صباح اليوم مؤتمر حول فكر “أنطون سعادة” بين الماضي والحاضر،  في فندق غولدن توليب – الحمرا قدمت خلاله الدكتورة ليليان قربان عقل مداخلة بعنوان “الفكر المدني وانطون سعاده”، في “المحور الأول من المؤتمر “العلمانية ونظام الحكم”، حيث اعتبرت أن هذا المؤتمر سيعيدُ ضبطَ إبرة البوصلة الفكريّة نحو طروحات سعاده وبحث أطر شرحها وإمكانيّة إعتمادِها وتطبيقِها في مجتمعاتٍ لا تزال تترجّح بين تبعيّة التراث الديني والتوفيق مع الحداثة والعصرنة وصعوبات التحوّل من مجتمعاتٍ إنغلاقيّة إلى مجتمعٍ انفتاحي، بحيث لا نكون أمّةً بأوطانٍ كثيرة وبشعوبٍ متنوّعة…! وقالت:

“صباح الخير،

تُحَتّمُ مسؤوليةُ الإنتداءِ حول الفكر المدني وانطون سعاده أن نقفَ تهيّباً أمام قامةٍ فكريّةٍ، قيل فيها الكثير وكُتِبَت حولها دراسات ومقالات غنيّة المضامين متشعّبة المواضيع وعديدة التناولات! وإنّي من هذا المقام الفكري الشديد الوفاء لأنطون سعاده، عقيدةً وفكراً وإنتصاراً لمبادئ، أراني منحازة للقول إنّ هذا المؤتمر بمحاوِره الثلاثة والمداخلات السبعة التي تنتظمُ أعمالَهُ، يشكّلُ إطلالةً جديدةً تستنزفُ فكر سعاده وطروحاتِه، وتحاولُ مقاربةَ فلسفتِه العقيدية، وتفسيراتِها وتحدّيات تطبيقها على واقعِنا المُعاش، بل الذي تقاسيه مجتمعاتُنا بتعدّديّتِها المجتمعيّة وتوزّعاتِها الطائفيّة والمذهبيّة، القاتلة للتقدّمِ والمانعةِ للعصرنة والتي تحولُ دون أي تحديثٍ أو تطويرٍ مأمول.

يفرضُ موضوعُ مداخلتي، التمييز بين فكر انطون سعاده في تقديمِه لمعنى (الحياة المدنية)، وإمكانيّة فهمه وتطبيقه في مجتمعٍ كَثُرت فيه الانتماءات وتعدّدت الالتزامات وقلّت فيه المواطنة وندر فيه الحسُّ المجتمعي وخفّ الشعورُ القومي.

وإذا كانت أكثر التحدّيات بروزاً في تقديمِ وشرح مفهومي (الفكر المدني) و(الدولة المدنيّة) هيَ إشكاليّة الإجماع حول هذين المفهومين في مجتمعٍ قلقٍ ودائم التشظّي، فإنّ مسؤولية هذا اللقاء المشكورة عليه اللجنة التنظيميّة، هي أن نحرّكَ البحثَ من جديد حول المصطلحات المفهوميّة لفكر سعاده ونعمل على شرحِها وتفسيرِها والتعريفِ بدلالاتِها، منعاً لأيّ تأويل أو إساءة تفسير. فنكون بذلك إعتمدنا قاعدة ثلاثيّة أركانها أن نستفهم لنَفهم ونُفهم…!

لعلّ ما تُفضي إليه هذه المطارحات، يؤكّد على ثابتةٍ فكريّةٍ وثقافيّةٍ واجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ هي أن سعاده لم يُدرس كفاية بعد، ولم يَتِمّ تناولُ فكرِه من كلّ جوانِبِه من قبل باحثين ملتزمين ولا غير حزبيين.

فَضْلُ هذا المؤتمر أنّه سيعيدُ ضبطَ إبرة البوصلة الفكريّة نحو طروحات سعاده وبحث أطر شرحها وإمكانيّة إعتمادِها وتطبيقِها في مجتمعاتٍ لا تزال تترجّح بين تبعيّة التراث الديني والتوفيق مع الحداثة والعصرنة وصعوبات التحوّل من مجتمعاتٍ إنغلاقيّة إلى مجتمعٍ انفتاحي، بحيث لا نكون أمّةً بأوطانٍ كثيرة وبشعوبٍ متنوّعة…!

المعضّلة الأكثر اعتراضاً على طروحاتِ الفكر المدني، تركّز أساساً على وجودِ جدلٍ دائمٍ بين المرجعيّات الدينيّة وبين المجتمع المدني العلماني، على مستوى إفتعالٍ موسِمي للمناظرات والجدالات من دون التوصّل إلى مفاهيمَ محدّدةٍ حول أهداف (الفكر المدني)، الذي تعثّر المجتمعُ المثقّف في إطلاق مبادرات جادّة تكون قادرة على تجاوزِ العصبيّات الدينيّة وتسعى إلى بناءِ جسورِ تعاونٍ وتفاهمٍ بين السلطةِ المستقويةِ بواقعِها التمثيلي للطوائف وبين أصحابِ الفكرِ والرأي الحرّ الرافض للتبعيّة والساعي إلى العصرنة الفكريّة من دون الانسلاخ عن الواقع السّياسي اللّبناني، بحيث لا يكون (تكفير) ولا يقابله إتهامات بالتعصّبِ ولا نقاشاتٍ سلبيّةٍ بين جماعاتٍ لا تتحاور أصلاً ولا قابليّة لها للتفسير والتواصل.

إنّ الحديثَ عن الفكر المدني كأساس لنشوء المجتمع المدني بسياقهِ النظري الذي يمهّدُ للممارسةِ الديمقراطيةِ، لا يزال القضية المحوريّة في حياتِنا السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة العصرية.

لقد ساهمت مدارسُ فكريّةٌ غربية عديدة في صياغةِ مفهومِ المجتمع المدني ومن أهمِّها مدرسةُ العقد الإجتماعي والهيغلية والمدرسة الماركسيّة وخصوصاً المفكّر الإيطالي غرامشي. وربّما كان من  الصعب الإحاطة بمساهماتِ كلّ المدارس في إطار بحث واحد لكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هناك عدّة مساهمات في تحديد هذا المفهوم وليس فقط كونُه سلاحاً في يدّ الحركات الليبراليّة الهادفة إلى الحدِّ من السلطة الإقطاعيّة والتأكيد على أهميّة الدّولة في تحقيق العدالة داخلَ المجتمع.

علماً أن انطون سعاده يتجاوز ويتميّز عن الليبرالية في تأكيدِه على مفهوم العدل الإجتماعي والإقتصادي والقضائي والحياة الكريمة لكلّ المواطنين.

لقد أتْقَنَ انطون سعاده الوضوحَ والبرهانَ فكان فكرهُ شهادةً على عقلٍ يقرأ الواقعَ ويصف له الدواء في مواجهةِ التحدّيات وذلك ضمن مشروعٍ نهضوي متكامل يرتقي بالإنسان في سبيلِ تقدّم المجتمعِ فجعل القضية السورية قضيّة قوميّة قائمة بذاتها، نظام هذه الأمّة، الأمّة السّوريّة، يقوم على فصل الدين عن الدولة، منع رجال الدين من التدخّل في الشؤون السياسيّة والقضاء وإزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.

ما هو مفهوم انطون سعاده للدولة القوميّة الإجتماعيّة وكيف شرح أهميّةَ الوصولِ إلى حقوق المواطنة العادلة عندما دعا إلى دينٍ اجتماعي مدني مبنيٍّ على مسألةِ الأخلاق التي ينبغي أن تكونَ في صميمِ كلّ نظامٍ اجتماعي حيث لكلّ فرد حريّة الإيمان بما يشاء.

من هذا المنطق نوزّع بحثَنا في الفكر المدني وانطون سعاده إلى محاورَ ثلاثة:

  1. انطون سعاده والدولة القوميّة
  2. انطون سعاده ومفهوم المواطنة العادلة
  3. نظرة انطون سعاده إلى الدينِ في الدولة.

في المحور الأول، نتناول مفهوم سعاده للدولة القوميّة الإجتماعيّة التي دعا إليها الا وهي دولة الأمّة، لا دولة دينية ولا دولة طائفيّة. إذ يعيد انطون سعاده إلى إستغلال الغرب الإستعماري بمختلف أنظمته للنعراتِ الدينيّة في العالم العربي والإسلامي في دعواتٍ هي دليل على احتقار الدول الإستعماريّة الكبرى مدارك الشعوب التي لا تزال تجهل ما هو الفرق بين القومي والديني وبين الأمّة والجماعة الدينيّة وبين السياسة والعقائد الدينيّة. (سعاده، الأعمال الكاملة، المجلّد السادس 1942 – 1943، 2001، الصفحات 40 – 47)

يقول سعاده في دراسته لنشوء الأمم:

ما يبرّر وجودُ القوميّة هو اقرار أن السيادة مستمدّة من الشعب، هذا هو المبدأ الديمقراطي الذي تقوم عليه القوميّة، فالدّولة الديمقراطيّة هي دولة قوميّة حتماً، فهي لا تقوم على معتقدات خارجيّة أو إرادة وهميّة بل على إرادة ناتجة عن الشعور بالإشتراك في حياة واحدة (د. يوسف كفروني، دراسة بعنوان معوّقات النهوض وبناء الدولة القوميّة الديمقراطيّة)

فيشترط سعاده أن تكونَ كلّ عَلاقة لأيّ دولةٍ أجنبيةٍ معنا قائمة على أساسِ الإعتراف بسيادتِنا القوميّة.

والدولة القوميّة هي الدولةُ المدنيّةُ التي تحدّد شروطَ ومؤهّلاتِ من يَحُقُّ لهم الترشّح للمواقع السياسيّة والقضائيّة فيها.

في المحورِ الثاني، انطون سعاده ومفهوم المواطنة العادلة، نشير إلى الربطِ بين المواطنة والدولة القوميّة الديمقراطية بمفهومِها حماية الحقوق الأصليّة الطبيعيّة فلكلّ فردٍ الحقّ بالحياة والحريّة والإختيار والتعبير…

إذ يؤكّد سعاده في مقدّمِة كتابه نشوء الأمم على ظاهرة الوجدان القومي الذي يشكّل الأساس في ثقافة المواطنة ويشدّد على محاربةِ النزعة الفردية التي تمثّل التهديدَ الأخطرَ لوحدة المجتمع ويشدّدُ على أهميّة تغليب المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة.

يقول “لا حل لمشاكل سوريّة الدينيّة والإجتماعيّة غير حل القوميّة الاجتماعيّة التي تفرض إنشاء كَيان يكون فيه جميع أبناء الأمّة أحراراً في الحقوق والواجبات (سعاده، الأعمال الكاملة 6، 2001، ص 167).

إنّ طرحَ انطون سعاده للدولة القوميّة، دولة الأمّة السوريّة هي النظام السّياسي والحقوقي الأفضل الذي يرسّخ الفكر المدني على أسسٍ عادلةٍ يعبّرُ عن إرادةِ المواطنين ولا يميّز بينهم على أساس الإنتماء الديني أو الطائفي أو الجندري، فهو من الأوائل من أعطى المساواة بين المرأة والرجل.

“إنّ المواطنية تحدّدُ علاقات الفرد بالدولة بشكلٍ رئيسي والهوية المدنيّة مُصانة بالحقوق التي تسبغها الدولة وبالواجبات التي يؤدّيها المواطنون. إنّ أفكار الإستقلاليّة والمساواة والمشاركة المدنيّة في شؤون الدولة، تصنع المواطنيّة، نظريّاً بمعزل عن الأشكال الإقطاعيّة والإستبداديّة للهوية الإجتماعيّة – الهوية التي أصبحت مرتبطة بشكلٍ وثيقٍ بالمواطنيّة هي الهويّة القوميّة” (منيش، 2010، ص 14)

وقد شغَلَ موضوعُ الدين حيّزاً كبيراً في أعمالِ سعاده نختصره في المحورِ الثالث لهذا البحث، بـ نظرة سعاده إلى الدين في الدولة.

في نظرةِ سعاده إلى العَلاقة بين الدين والدولة يدعو إلى فصل الدين عن الدولة مشيراً إلى أن التعصّب الديني هو الذي جَلَب الويلات إلى الأمّة السوريّة ووقف عائقاً دون نهضتها وإن كان في هذا الإطار فصل بين البعد الروحي للأديان التي ترقى بالإنسانِ قيماً وأخلاقاً وإدارة الدولة فمنع رجالَ الدين من التدخّلِ في شؤون الحكم وإدارته، فيقول “لا دين في الوطنية، إن الأديان في المعابد والعبادة بين الإنسان وربّه أمّا الوطن فهو للجميع” (سعاده، الأعمال الكاملة 3، 2001، ص 316).

إنّ فكرة الأمّة هي الفكرةُ المركزيةُ عند سعاده ومبادؤها الإصلاحيّة هي من في إقامة دولتها العلمانية العلمية ذات النظام الواحد الذي يتساوى فيه المواطنون والمواطِنات بالحقوق والواجبات.

كل ذلك يختصرُ نظرةَ سعاده للدولة الحديثة ذات أساسٍ إجتماعيٍ اسمُه المجتمع المدني.

انطون سعاده لم يستخدم مصطلح “المجتمع المدني” في كتاباتِه، لكن في إستخلاصِنا من أفكار سعاده الأساسيّة وجدنا ما يجعلها قريبة منه، فتصوّر سعاده للمجتمع القومي الأساسي هو المجتمع الجديد أي الأمّة الواعية التي تهاجمُ المفاسدَ الإجتماعيّة والدينيّة والإثنيّة والعشائريّة والسياسيّة والنزاعات الفرديّة، والإقطاع والعقليّات المتحجّرة.

وما أحوجَنا اليوم بالذات إلى تطبيقِ هذا الفكر العظيم في مجتمعاتِنا التي تعيشُ أزماتٍ جمّة تتفاقَمُ يوميّاً وتكاد تقضي على ما تبقّى من “الأمّة السوريّة”، فهل يمكننا اليوم الإنطلاق من فكر انطون سعاده كإطار فكري عام لتنظيمِ المواطنة على الأرض الواحدة لأعضاءٍ يشتركون في الحياة فيها، ليكونوا مواطنين بالفعل وأعضاء من المجتمع المدني والدولة المدنيّة القائمة على حماية حقوق المواطنين بالعيش بكرامة وحريّة، وذلك بنشر الوعي الإجتماعي والقومي للخروج من الولاءات والعصبيّات الجُزئيّة إلى الانتماء العام الجامع ضمن خطّة ثقافيّة اجتماعيّة تصبُّ في الحياة السياسيّة العامّة على مختلفِ المستوياتِ والتي أضحت شرطاً وجوديّاً أساسيّاً اليوم لبقائنا كما أشار الأستاذ يوسف الأشقر.

إنّ التحدّي الكبير الذي نعيشُه اليوم هو في أن ننقلَ هذا الفكر في حركتِه العظيمة بمكوّناتِها الوجوديّة إلى الممارسة المنتظمة التي تتناسبُ مع حاجةِ مجتمعاتِنا اليوم إنطلاقاً من وعي أفرادها لضرورة الخروج من هذا الدرك الثقافي والحضاري بالإستفادةِ من خلاصةِ هذا الفكر العظيم الذي خاطبَ أجيالاً كانت لم تولد بعد، هي أجيالنا اليوم التي تتخبّطُ بأزماتٍ إقتصاديّةٍ وثقافيّةٍ وإجتماعيّةٍ وهي بحاجة أن تعيشَ مفهومَ المواطنة التي تضمن لها قيمَ الحقّ والخير والجمال…”

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »