الدكتور جهاد نصري العقلخاص ليبابيدياغير مصنفكتّاب الموقعكتاب وآراء

جهاد نصري العقل: “وداعا أيتها الوظيفة العامة”.

"كتبتها يوم احالتي على التقاعد 13 تموز 2012، وما أشبه اليوم بالأمس".

فلسفة المتقاعد

أمس، وفي اليوم الثالث عشر، (وأنا من المتفائلين كثيرا بهذا الرقم)، من شهر تمّوز، أكملت الرابعة والستين من عمري، ولا أعرف كم من الدورات درت حول نفسي، وحول الأرض، التي قامت بواجبها بالدوران حول نفسها وحول الشمس ومنظومتها الكونية، كي أبقى، واستمر حتى هذا التاريخ . وفي تمام الرابعة والستين استرحت من أعمال الوظيفة العامة، التي عملت على خدمتها ثمانية وأربعين عاما (1964- 2012)، وما رحمتني، وما أنصفتني، بل على العكس خذلتني ونبذتني، وتركتني نادما على تلك الساعة التي دخلت فيها.. وأنا اليوم وفي بداية الخامسة والستين من عمري أجتاز عتبة “رتبة” المتقاعدين، نحو المجهول، فمن هو المتقاعد؟

إني أرى أنّ هذه اللفظة مركّبة من كلمتين؛ الأولى هي فعل الأمر مُتْ، وفاعله وجوبا أنت، والثانية هي اسم الفاعل قاعد، وهكذا تكون هذه اللفظة تعني : مُتْ وأنت قاعد، هذا على الأقل في نظر المتشائمين، ولست أنا منهم . من جهة أخرى، من الممكن، أيضا، أن تكون لفظة “المتقاعد”، هي على وزن مُتفاعِل،  وهذه التفعيلة هي الأساس في بحر الشعر “الكامل”، الذي يتألف من ست تفعيلات، هي :

متفاعلن متفاعلن متفاعلن          متفاعلن متفاعلن متفاعلن

وقد قالوا في توصيف “البحر الكامل”:

كَمُلَ الجمالِ من البحور الكامل         متفاعلن متفاعلن متفاعل

وإذا “كَمُلَ” الجمال في تفعيلات هذا البيت من الشعر، فهذا يعني أنّ لفظة المتقاعد في نظر المتفائلين، تعني التفاعل، وليس الموت قعودا، والتفاعل هو من شيم الكائنات العاقلة التي تخرج من دائرة التقوقع والانغلاق على الذات، إلى الإنفتاح على جمال الوجود، وطلب الحياة في أسمى معانيها، وأرقى أهدافها .

وإذا كنت قد تطفّلت على اللغة العربية في مجال تفكيك لفظة “المتقاعد”، فإني أعتذر من سيبويه، ومن مجامع اللغة العربية، ومن معدّي المعاجم وناحتيّ المصطلحات، ولكنني، في ما ذهبت إليه يعكس صورة وحقيقة الواقع الذي يعاني من تداعياته كلّ من عمل في القطاع العام ، إذ أنّ البعض من هؤلأ ، وأخصّ بهم المتشائمين، قد ودّعوا الوظيفة العامة، وقد أرهقتهم الوظيفة واستنزفتهم، وعصرتهم، وأكلت لحم أجسادهم وتركتهم عظاما بائسة يائسة تجرّ أذيال الخيبة… أما البعض الآخر ممن عمل في الوظيفة العامة، وأخصّ بهم المتفائلين، فقد خرجوا يتنعمون بمغانمهم، التي في كثير من الأحيان اتضحت منابعها، وفي الغالب عدم شرعيتها، ونجوا من كلّ مساءلة أو محاسبة، وكأني بقانون الإثراء غير المشروع قد وُضع لشرفاء الإدارة وفقرائها دون سواهم، وكان بالإجدى بهذا القانون أن يطرح السؤال، من أين ليس لك هذا؟، بدل السؤال من أين لك هذا؟، لإنّ موارد الذين أثروا من الإدارة معروفة وواضحة منابعها ومصادرها وصفقاتها …  أمّا المتفائلون في تقاعدهم من غير أثرياء الإدارة، فهم مجموعة من الموظفين رفضوا مقولة “الحاء” في بعديها :أن يكون  الموظف في الإدارة العامة : “حمار” أو “حرامي”، وفرضوا حاء ثالثة هي حاء “الحرّ” .

 

الحاء الوظيفية  في أبعادها الثلاثية

أنت موظف ؟، إذن، بالتأكيد، أنت أحد إثنين : حاء أم حاء! “حمار أم حرامي”!، مقولة مقيتة تردّدت على مسامعي على امتداد، أكثر من نصف قرن، لأنّ والدي ابتلي قبلي بالوظيفة العامة، وقد “جنى” والدي عليّ مرتين، الأولى معروفة، والثانية عندما أدخلني إلى الإدارة العامة، وكان قدوتي في العمل المستقيم، ضمن دائرة الحاء الثالثة في العمل الوظيفي وهذه الحاء هي حاء “الأحرار”، حيث فيها الموظف ليس حمارا أو حراميا بل حرّا، بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى .

أنت أحد إثنين : حاء أم حاء ؟ حمار أم حرامي؟  ومن هذا السؤال تنطلق معادلة الحاء في أبعادها الثلاثية : أنت موظف ؟ أنت حمار أم حرامي أم حرّ ؟

في الحاء الأولى “الحمار” : أقول أن بعض الموظفين في الإدارة العامة، ارتضوا أن يكونوا مطيّة، أو أن يتزحفطوا (الزحف على البطون)، ، أو أن يتحملوا ويصبروا، وقد يكون ذلك من طبيعتهم أو من تربيتهم وثقافتهم، أو أملا بمن يصلح أحوالهم، أو أن ينقذهم ممّا هم به من ضعف ووهن وجبن وخنوع، وقد ارتضوا جميعا بما  توفّر لهم من فتات مغانم  الإدارة، يتقاسمون الفقر بالتساوي، فازداد الفقراء فقرا، وقد استسلموا الى مشيئة الحاء في بعدها الثاني أي حاء “الحرامية ” .

في الحاء الثانية “الحرامي” : الحرامي ليس بالضرورة هنا من يسلب المال فقط، الحرامي هو من سلب القوانين فعاليتها، فأقدم على تعطيل تطبيقها، واجهز على مؤسسات الرقابة في الدولة، وأخضع الإدارة للأمزجة السياسية والمذهبية المعطلة لفاعلية الإدارة وانتاجيتها ومصلحتها العليا، وعدالتها الإجتماعية – الإقتصادية، وتوزيع الثروة فيها، فأدى جشع المتحكمين بمفاصل الإدارة إلى تعطيل كلّ محاولات الإصلاح فيها، فضلا عن هدر المال العام واختلاسه، وتكديسه في جيوب مجموعة من “الحرامية” اتقنوا “فنّ” السرقة ، فازداد الأغنياء غنى على حساب الفقراء الذين ازدادوا فقرا وعوزا “وما اغتنى غنيّ إلا على افقار فقير”، والذي وصل البعض منهم إلى أعلى المراكز والفئات والدرجات والرتب . إن فئة الحاء “الحرامية” في بعدها الثاني، ما زالت تسرح وتمرح في مفاصل الإدارة اللبنانية بلا رقيب ولا حسيب .. مخلّفة في مسيرتها الملتوية العديد من “الضحايا” خصوصا بين فئة الحاء الثالثة “الأحرار”، الذين رفضوا أن يكونوا مطيّة، وارتضوا أن يكونوا الضحية في هذا الصراع بالأسلحة غير المتكافئة بين الفئتين، بين فئة الحرامية الذين تسلّحوا بكلّ أدوات الفساد والإفساد، وفئة الأحرار المتحصنة بالمناقب والأخلاق والإخلاص والتضحية وخدمة المصلحة العامة . فبرز في العمل الإداري حاء ثالثة هي حاء الحر .

في الحاء الثالثة : الحرّ، وهي حتما ضمير غائب مغيّب عن مصطلحات “التصنيف الفنيّ” الذي عرفه قاموس  الإدارة العامة، وإن كان هذا المصطلح موجودا بالقوّة، وليس بالفعل،..أن تكون حرّا يعني أن لا تكون “حمار” أو “حرامي”.. باختصار أن لا تكون مطيّة  لأحد، او أن تنحدر إلى مستوى اللصوص، والحرامية، ولو أدى بك هذا المطاف الصعب إلى أن تكون الضحية – الشهيد، …

أصحاب العقول والحظوظ

يُروى أنّ والدة الإسكندر المقدوني الكبير، طلبت ليلة ميلاد ابنها من الألهة أن تعطي مولودها حظا يخدمه أصحاب العقول، لا أن تهبه عقلا  يخدم به  أصحاب الحظوظ.

وهذه حال الإدارة في لبنان أصحاب العقول تُسخّر في خدمة أصحاب الحظوظ ومآربها الشخصية، ومنافعها الفردية، حتى صحّ فينا قول الشاعر :

العقل في بلادنا ارتـــــطـم          تيجانه موصولة بالـقـدم

أكاد من حزني على حزنه          أهزأ من أصابعي والقلم

نصف قرن ولم تنصفني الإدارة، فأنا نادم نادم؛ لقد دخلت الإدارة في العام 1964، وها أنا أتقاعد منها في الرابعة والستين من عمري، بعد خدمة امتدت على مدى ثمانية وأربعين عاما، ويا للصدفة ، فأنا من مواليد العام 1948 . وهكذا أكون قد  دخلت الإدارة وأنا في السادسة عشرة من عمري ! أحمل شهادة الدروس الإبتدائية، أعمل في الليل وأتابع دراستي في النهار، ومن أجير في الهاتف إلى رئيس مصلحة في وزارة الخارجية والمغتربين، يحمل إجازة في الإعلام (1972)،و دكتوراة دولة في التاريخ (2001)، وانتاجه الفكري 16 كتابا في ألاف الصفحات في مجالي الإعلام والإغتراب، إضافة إلى عشرات المقالات والدراسات المنشورة في بعض الصحف والمجلات . والشأن المادي لا يقلّ إذلالاً من الشأن المعنوي، كيف لا؟ وتعويض نهاية الخدمة لا يكفيه لشراء غرفة واحدة في هذه الدنيا!   أمّا راتب التقاعد لموظف أمضى نصف قرن في الإدارة فلا يكفيه مع زوجته لبضعة أيام، أو لحجز  حفرة لهما في الآخرة ! هذا إضافة إلى الغبن المادي الذي لحقني في بعض مستحقاتي المالية نتيجة “القاعدة الاستنسابية” المتبعة في الإدارة؛ فما يجوز هنا، لا يجوز هناك، وإذا لم يعجبك فاذهب وبلّط البحر ولبّط الموج!!

أمّا لماذا لم تنصفني الإدارة، ولم تنصف أحدا من أمثالي؟  فلإنّ ذلك من طبيعة الإدارة، بل من أسس “النظام”، الذي يحقّر الكفاءات ويستخف بدورها ويشردها ويهجّرها حتى يبعدها عن مراكز القرار التي احتكرتها حفنة من الوصوليين والانتهازيين والمحظوظين والمتخلفين والفاسدين – المفسدين، الخاضعين لطبقة سياسية عفنة، تسودها الفوضى والسخافة، تحكم ولا ترعى، تأخذ ولا تقدم، تأمر ولا تقود، وتقدّر العدد “الانتخابي”، و”المفاتيح الإنتخابية” أكثر من النوعية في الخدمة العامة، وتحلّ الجهلاء مكان الحكماء والعقلاء، لا تثق بالقدرة والكفاءة والمواهب، تخاف من المعرفة والحق، تكره العدالة، شعارها الملك أساس العدل ! والموظف المناسب دائما في المكان غير المناسب.. وبعدها الطوفان، وبعد حمارها ما يبقى حشيش !

نحن اليوم في ظل “دولة” أشبه بالسجن الكبير، حكامها ليسوا حكماءها، نحن في دولة الحكم فيها غير صالح وغير عادل، وحتى يستقيم الحكم في بلدنا على حكامه أن يتركوا الحكم لحكمائها .. إنّ الحكام هم موظفون عند مواطنيهم، وليس العكس، وكما قال الفيلسوف أبو العلأ المعريّ : ” إنّ الموظفين أجراء الرعية استأجرتهم بما تدفعه من الضرائب من المكوس، ليؤدوا ما تكلّفهم به من الأعمال، فإذا لم يؤدوها على خير الوجوه، وإذا لم يراعوا في أدائها القسط والعدالة، كان للرعية أن تحرمهم من أجورهم وتستردّ منهم مناصبهم :

ظلموا الرعيّة واستجاروا كيدها         فعدوا مصالحها، وهم أجراؤها”

إنّ إدارة الدولة ومرافقها العامة مسألة تحتاج إلى أفكار أعظم العقول وأشرفها وأخلصها وأنقاها لا بل أقدسها.. إذ كيف يمكن انقاذ المجتمع وانهاضه وتعزيز قوته المادية- الروحية إلا إذا تولى أمره أحكم رجاله وأعظمهم وأكثرهم مناقبية ومثالية؟ كان سقراط يردّد : “لن يكون الحكم صالحا إلا في دولة حكماؤها حكامها “.

وفي هذا الوقت، الذي يدخل العالم فيه عصر المعرفة، عصر القوّة الفكرية غير المحدودة، عصر صراع الأدمغة والتنازع عليها واصطيادها ومصادرتها واحتكارها للإفادة منها في تطوير حياة المجتمعات القوية المتقدمة، في هذا الوقت بالذات تتطلع الأمة إلى قادة الفكر فيها، إلى حكمائها لإنقاذها من حالة التخلف والانحطاط التي تتخبط فيها في جميع مجالات حياتها، من أجل انتشالها من هوّة التاريخ وانهاضها، وانمائها وتحصينها بقوّة أدمغة أبنائها وسواعدهم، وإننا على ثقّة تامة أنّ في هذه الأمة فئة من أبنائها :  متنورة حكيمة قائدة قادرة على خدمتها بأمانة وأخلاص، عاملة على تمكين العقل الصحيح من السيطرة على الأوهام السقيمة، رامية إلى الإصلاح الحقيقي في التربية والسياسة والإقتصاد والإجتماع والإدارة …

وداعا أيتها الإدارة العامة… نعم أنا نادم ولكن ليس على فراقك .

 

جهاد نصري العقل

 

13  تمّوز 1948- 14 تموز 2012

 

عِبرة

يُروى عن الفيلسوف زينون الرواقي، أنّه رأى فتى على شاطىء البحر تبدو عليه إمارات اللهفة والحزن الشديد . فقال له : يا فتى، وما يلهفك ؟ فلو كنت في غاية الغنى وأنت راكب في لجّة البحر، قد انكسرت بك السفينة وأشرفت على الغرق، لكانت غاية مطلوبك النجاة وترك كلّ ما في يدك . ولو كنت ملكا على الدنيا وأحاط بك من يريد قتلك، كان مرادك النجاة . قال الفتى : نعم . فقال له زينون : إنهض، إذن، أنت الغني، وأنت الملك الآن .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »