د.هشام الأعور – الراهب الأنطوني وفكرة “التكاؤن”: مواطن، تعددية ودولة .
الجمهورية الخامسة
أطروحة الأب ميخائيل روحانا الأنطوني حول “التكاؤن”هي موضوع نقاش وجدل ،وقد وردت في كتابه عن ” الجمهورية الخامسة” الذ طرح فيه رؤيته الفلسفية الدستورية للبنان الجديد الصاعد من عمق حفرة انفجار مرفأ بيروت صعود الفينيق من رماده.
هي رؤية وُلدت ، كما يقول، من رَحِمِ ألمٍ إثْرَ تدنيس أرض لبنان بوطء أقدام جيش دولة غاصبة أسمها، تزويرا، “إسرائيل”. ما أذله حينها ليس غلبة العدو وغلاظته وتفوّقه العسكري إنما ضُعفُ نظامنا وانقساماتُ شعبنا العامودية وسقوطُه المرير تحت سلاح “البروباغاندا” المستوردة، سواء اليسارية منها أو اليمينية، اللتين كانتا مُحرَّكّتين من المصدر نفسه، ومستندتين إلى عامل غريب عن الشعب اللبناني، العامل الفلسطيني، الذي أُدخل مهجَّرا، مظلوما، إلى ربوعنا وسرعان ما تحوّل إلى حصان طروادة في قلب مدننا وشرايين وطننا. إذا لا بد من التوصل إلى وحدة الشعب وصحة الانتماء والولاء للوطن.
لماذا “التكاؤن”، وما قوة هذه الرؤية ومبادئها ومضمونها الفلسفي والاجتماعي وأي رسالة تحملها ؟
هذا ما سنحاول الاجابة عليه من خلال الغوص في مضامين هذه النظرية الفلسفية التي نختصرها بالجواب على السؤال الشهير: أي لبنان نريد؟ لنقول أن “التكاؤن” انتماء يُعبّر عن وجود وليست فكرة. الفكرة تروح وتعود، تُخطئ وتصيب، تزدهر وتخبو. الانتماء هو أن يكون المرء متحداً مع ذاته؛ أن لا يكون منسلخاً عن ذاته .”التكاؤن هو المواطن ، وهو على عكس النظام السياسي الراهن ،الذي يحكمه طغاة يفرضون أنفسهم على الناس و سلخ المرء عن ذاته و جعله يعيش من أجل غيره، مطابقاً لغير ذاته، خاضعاً لغير ما يُمليه عليه ضميره. “التكاؤن” هو منافي للاستبداد الذي يُنافي الأخلاق، وهو يعبد المسافة بين المرء وأخيه ولا يمنعهما من التواصل. والتواصل الحقيقي لا يحدث إلا في العلانية، أي في مجتمع مفتوح. ليس هو حرية إبداء الرأي وحسب، بل الحق في أن يكون للإنسان رأي ويعلنه على الملأ. واذا كان الاستبداد يمنع حرية الرأي، ويُميت النفس التي تفكّر، و يُحوّل الناس إلى أحياء أموات، “فالتكاؤن” هو ان يوجد الفرد ويكون وجوده أساساً لكل قضاياه المحقة و في سبيل الوطن ومن أجله.
“التكاؤن” أن نكون في ذاتنا ومن أجل ذاتنا، وأن تكون ذاتنا في ضميرنا. وأن تكون المنطلق والنهاية. والله لم يخلقه إلا لكي يكون كذلك. أما هؤلاء المتسلطين ، فقد خالفوا مشيئة الله في سعيه لأن يكون المرء غير ذاته، ومن أجل آخر يتناقض مع ذاته، خاضعاً لمتزعم ارتكب الخطيئة الأبدية عندما حاول أن يكون خالقاً آخر.الحاكم يقول أنتم خلقتم من أجلي، ومن أجل أن تخضعوا لي. “وما خلقناكم إلا لتخضعوا”.
“التكاؤن” تعددية. ليس هوية واحدة، بل هويات في ذات واحدة. المشترك في هذه الهويات الانتماء للوطن والمصير المشترك. ليس مهماً الطائفة بل الانتماء. يُمكنكَ أن تكون مارونيا ، أو أرثوذكسيا أو كاثوليكيا أو سنيا، أو شيعيا، أو درزيا. لا هم إن تعددت الطوائف أو المذاهب اللبنانية . المهم أن يكون هناك دولة، يعيش الجميع في كنفها ، لا مجرد كانتونات او ممحميات طائفية. “فالتكاؤن” هو الرافعة لفكرة الدولة حيث ينغرز الوعي بها في الضمير الإنساني. وينتظم الناس في إطارها. لا تفرض نفسها بالقسر بل تكون الإطار الناظم للمجتمع .
“التكاؤن” صدق نابع من الانتماء من فطرة أن يكون المرء بذاته وفي ذاته ولذاته. الانتماء أن يكون هو هو، كما يجب أن يكون لا كما يفرضه نظام أو حاكم هو بمثابة المخلص الدجّال والذي فقد الشرعية منذ زمن طويل، منذ أن انفصل عن المجتمع، واستعان بالخارج على ناسه، فعادت التبعية على أيديه، وأصبح وجوده استمراراً للاستعمار والارتهان للخارج. اما حليفه الطبيعي في الداخل هو الدين السياسي، لأنه هو أيضاً تسلخ الإنسان عن ذاته، ويتناقض مع الإيمان. فالإيمان اتصال مباشر مع الله، والدين السياسي وسيط بين الإنسان وخالقه.
“التكاؤن” انفتاح على العالم وتفاعل معه. لا خوف من غزو ثقافي. والثقافة عالمية على كل حال ولم تعد محلية. إذ يموت المحلي تدريجياً بفضل العلم والتكنولوجيا. يمانعون ضد الغزو الثقافي ولم يمانعوا ضد التبعية السياسية التي هي أوضح من شمس النهار في تموز. إن “التكاؤن” الثقافي يريد استيعاب العلم والعالمية وكسر أسواراً من الجهل والرقابة البيروقراطية، وهو الضمير الانساني الذي لا يمكن تطويعه بكافة الاساليب القمعية التي ارادت الناس متشابهين في الخضوع ، لتحل عبادة الطاغية مكان الضمير، وما يستتبع ذلك من أن يكون المرء منسجماً مع ذاته. عبادة الله فيها حرية، أما عبادتهم ففيها ذل الخضوع والاستسلام للطغاة الذين أرادو الاستبداد ناساً متشابهين، فقضوا على التعددية. “والتكاؤن” هو في هذه التعددية الذي أنكروها. سنُعيد ونُكرّر أن “التكاؤن” هو المواطن ، والنظام السياسي الراهن ، هو نقيض”التكاؤن”. هو نظام هجين يفرض ازلامه ومرتزقته على الناس.
“التكاؤن” لا يتجزأ ، لن تنجح معركة بناء الدولة ، ولا تحرير الادارة من الفساد الا اذا ترافق ذلك مع تحرير الانسان من العبودية وإقامة الاعتبار لكرامة الانسان، لأن “التكاؤن” كما يقول الأب الأنطوني يُستمد من فعل الكون (كأن) وليس من مجرد فعل الوجود والعيش المشترك القائم على (الكلأ والماء)، ويؤدي إلى الكينونة المشتركة والتي تعني “أن نكون سوية أو لا يكون لبنان”، وبالتالي تنطبق على هذه الحالة الكلمات الذهبية: “وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”. وعليه يؤكد في كتابه عن “الجمهورية الخامسة” على مسلمة إضافية: “ليس بتسوّل الأموال ولا باقتراضها ولا بالهبات المشروطة ولا بتعليق المشانق لمن خان أمانة الشعب ونهب المال العام يُنقذ الوطن، إنما بتصحيح القواعد الدستورية التي أسَّست للخيانة والجرائم العامة، وعطّلت المراجع الدستورية واستقلالية القضاء. والفرق الوحيد هو أن ننتقل بلبناننا من مفهوم العيش معا، وليته أعطانا امانا وسلاما دائمين، إلى الكينونة معا مسخرين كل ما يمكن من انانيات ونرجسيات للتوصل إلى هذا الهدف”.